قال الحق: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يونس:5
وجعل الله تعالى النهار للعمل والنشاط، والليل للراحة والسكون، وجعل فيهما سبحانه متسعاً للعابدين، وأغلق فيهما الباب عن الفشلةِ والبطالينوَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا الفرقان: 62
إن الحياة التي نعيشها ساعاتٌ ودقائق وثوانٍ، ومجموع ذلك لحظاتُ العمر وأيامه، فلينظر أحدنا كيف يقضي أوقاته، وما عساه يحصْدُ مما قدمته يداه في سني عمره.
وقتل الوقت متفشي في أمة النشاط والعمل، أمةِ فإذا قضيت الصلاةُ فانتشروا في الأرض أمةِ اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.
وكان ، يعملُ ويجتهد، ويكد ويتعب، حتى أنزل الله عليه طه ما أنزلت عليك القرآن لتشقى، فكان ، يخرجُ في ساعاتِ النهار للغزو والجهاد، وللصلاة وملاقاة الناس، ويذهب في حاجة أهله، وإذا دَخل منزله أعطى لأهله حقهم من محادثة وإرشاد وتوجيه، وإذا هجم الليل انتصب على رجليه قائماً وراكعاً وساجداً، لا يقدم المهم على الأهم، ولا يصدرُ من جَنَابِه الشريفِ إضاعةٌ للحقوق أو الأوقات.
ففي سنة الرسول العملية عمل متواصل بلا كسلٍ أو إهمال، وفي سنته القولية، تأصيل أيما تأصيل، فقد جاء في صحيح حديثه لا تزول قدما أبن آدم يوم القيامة عند ربه، حتى يسأل عن خمس، عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيما علمه. وفي رواية، لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه.
هذه الأمة، عندما أدرك أبنائها حقيقة الوقت وقيمته، أخرجت للعالم ثروة علمية في جميع التخصصات، واحتوت أقطار المعمورة شرقاً وغرباً، وعملوا بإيمان وصدق، وما تركوا لحظة من حياتهم تذهب هباءاً منثوراً، لقد حفظت لنا كتب التاريخ والتراجم، عيناتٍ يذهلُ أبناء العصر عن استيعاب جلدهم وصبرهم، في سبيل اقتناص أكبر وقت وأكثره في تحصيل العلم والمعرفة، حتى أنهم رووا عن أبي الوفاء ابن عقيلٍ الحنبلي، أنه كان يبل الخبز بالماء قبل أكله، فسأل عن ذلك، فأجاب إجابة الحريص على وقته بقوله:ما بين مضغه وبلعه قراءةُ خمسين آية، وكان مالك بن أنس، لا يدخل الخلاء إلا بعد ثلاثة أيام، ويقول، ما أكثر دخولي الخلاء، وكان محمد بن عبد الله الملطي، يمتنع من الحديث إلا في أوقات، وقال الصفدي: لم أر أبي حيان الأندلسي، إلا يسمعُ العلم، أو يشتغل أو يكتب، أو ينظر في كتاب. ومكث أحمد بن هبة الله الزوال في الحبس إحدى عشر سنة، فكتب ثمانين مجلداً، وكان محمود الأصبهاني يمتنع كثيراً عن الأكل، لئلا يحتاج إلى الشراب، فيحتاج إلى دخول الخلاء فيضيع عليه الزمان.
والإسلام يرسمُ طريقاً واضحاً في تنظيم الأوقات، وأبسط مثال على ذلك، أنه جعل للصلاة وقتاً لا تصح إلا فيه، وجعل للصيام شهراً، وللحج ميقاتاً، وبين المولى سبحانه، أن هذه الفروض لا تقبل إلا في أوقاتها، فقال سبحانه، إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا، وقال سبحانه، فمن شهد منكم الشهر فليصمه، وقال سبحانه الحج أشهر معلومات.
وفي الوقت الذي يقرر فيه ربنا أوقات بعض العبادات، يبين حقيقة قومٍ قد خسروا وضلوا سواء السبيل، حيث ضيعوا ساعات أعمارهم في اللهو الباطل، والكفر والتسويف، ويطلبون وقتاً إضافياً، بعد أن ذهبت أعمارهم وأيامُ حياتهم. وبين القرآن الكريم، أن بعض الناس، أسرف على نفسه إلى مجيء الموت، فعند معاينة الحقيقة، يندم على ساعات عمره، يندم على ساعات عمره، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ولم ينفعه تسويفه، ولن يقبل الله عذره، ويقول (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ).
من لم يكن يومُه الذي هو فيه*أفضل من أمسه ودونَ غده
فالموت خيرٌ له وأروح مـن*حياة سوء تَفُتُّ في عضـده
ومن إضاعة الوقت الاشتغال بعيوب الناس، ومن علامة إعراض الله عن العبد، أن يجعل شغله فيما لا يعنيه.
والتسويف وهو أن يعطل عملُ اليوم إلى الغد، أو أن ينظر الإنسان للمستقبل البعيد ناسياً حاضره القريب، فاشتغالك بوقتٍ لم يأتِ، تضييع للوقت الذي أنت فيه.
لا تـدع لذَّةَ يومٍ لغـد*وبِعِ الغي بتعجيـل الرشد
إنها إن اخْرِّت عن وقتها*باختراع النفس غيها لم تَعُدْ
لقد جمع أبو العتاهية أسباب المفسدة في ثلاثة: شبابٌ، وفارغ عن العمل، وجَيْبٌ ملئ بالنقود فقال:
إن الشباب والفراغ والجدة*مفسدة للمرء أي مفسدة