الحمد لله رب العالمين، القائل سبحانه في محكم التنزيل وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ[سورة الأعراف:31]، وأشهد ألا إله ألا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، القائل r " كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " .
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وأتباعه وذريته أمين.
أما بعد فيا أيها المؤمنون: خصلتان مذمومتان خبيثتان، لا تجتمعان في مؤمن متكامل الإيمان، هما الإسراف والبخل، وقد جاء النهي عنهما في القرآن والسنة وأقوال السلف صريحا صحيحاً، فقد جاء النداء من الله بالتوسط والاعتدال في الإنفاق، فقال عز وجل: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[ سورة الفرقان:67].
وقال عز وجل: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا[سورة الإسراء:29].
وإنه لمن أبشع أوصاف المبذر وصفه بأنه أخ للشيطان إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا[سورة الإسراء:27].
وجعل الله عز وجل جزاء الإنسان، الذي ينفق المال فيما لا طال ورائه، جعل جزائه أن يحرم من ماله ويحجر عليه، وسماه بالسفيه فقال سبحانه: وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً[سورة النساء:5].
وجاء في وصف الكافر أنه يعيش لبطنه وفرجه، فقال عز وجل:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ[سورة محمد:12]، ولهذا ثبت عن رسول الله r أنه قال : "المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء " (أي لا يشبع)
وإذا نظرت في المجتمع تجد الإسراف في الأفراح والأتراح، في السرور والحزن، فتجد الناس يزدحمون، على الموائد، ويتقتنصون فرص العوائد، فما يموت إنسان ، وما يتزوج متزوج حتى تستنزف الأموال والمدخرات، وأصبحت مراسم الزواج والمآتم في هذه الأيام، يلحقها كثير من الفساد وسوء التدبير.
ففي مآتم المسلمين تؤجر الخيم والكراسي، وتذبح البقر الأنعام، وتنقلب الأحزان في منتصف الليل، إلى لحم وأصناف من المأكولات، وفكاهات ونكت، وتستمر الأحزان المزعومة أكثرُ من ثلاثة أيام، ويعطلون حركة السير في الشوارع وتتجمد الحياة، وكأن القيامة قد قامت، مع أنه جاء في الحديث، لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً .
وقال r: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب " .
وقالت إحدى الصحابيات رضي الله عنها: كان فيما أخذ علينا رسول الله r في المعروف الذي أخذ علينا أن ألا نعصيه فيه، أن لا نخمش وجهاً، ولا ندعو ويلا، ولا نشق جيباً، وألا ننثر شعراً .
ومن العجب، وكم من عجيبة في هذه الأيام أن ترى بعض الناس يتنافسون في الباطل، فبعد الصراخ والبكاء، والكفر بالقضاء، يهجمون على القصع كما قال القائل:
يئن إذا أومضت رنـة*ويزأر منها زئير الأسـود
ويخرق خلقانه عامـداً*ليعتاض منها بثوب جديد
ويرمي بهيكله في السعير*لقلع الثريد وبلع العصيد
ومن الإسراف في الحزن، أن تحزن المرأة التي مات عنها زوجها، بترك التنظيف من أوساخها وروائحها، وبعضهن يجعلن الخرق في آذانهن، ولا تستحم إحداهن حتى تصاب بالجرب أو الطاعون لماذا كل هذا؟ لأنها حزينة على زوجها، فهذه تقول لها إياك أن تستخدمي الصابون، والأخرى تقول إياك أن تبدلي ثيابك، والثالثة تقول لها إذا مرضت فحرام عليك الخروج للعلاج، ومازال البعض حتى هذه الساعة يمشي وراء العادات الفاسدة والتقاليد البالية، قلة في الفهم وسوءا في التدبير.
والإسراف في الأفراح وما أدراك ما الإسراف في الأفراح، سرقة للكهرباء، وفوضى وضجيج وصخب، ويؤذى الناس والمرضى بإعلاء الإذاعات أخر الليل، لا يرحمون الصغير، ولا يوقرون الكبير، وتذهب مئات الجنيهات، ولو أنفقت هذه الأموال على الفقراء والمساكين لكان أولى وأفضل.
ومن الإسراف، أن يلبس الرجل الحرير والذهب، أو يقلد النساء، في لباسهم والعكس كذلك، بأن تتشبه المرأة بالرجل، فتحلق شعرها، أو تظهر مفاتنها وقد جاء في الحديث : "أنما يلبس الحرير- إي من الرجل – من لا خلاق له " ، وجاء أيضا: "حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم " .
وقال حذيفة رضي الله عنه: نهانا النبي r أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه .
ومن مظاهر الإسراف، ما يشاهد من قبل بعض المربين في تربية أولادهم، فتراه لا يعدل بينهم في الحقوق، فيسرف في الإنفاق فيعطي هذا ويمنع ذاك أو يعطي الذكور ويمنع الإناث، وجاء في الحديث أن النعمان بن بشير رضي الله عنه أعطاه أبوه عطية دون أخوته، فقال له r : أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا، قال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم، وفي رواية: أشهد على هذا غيري، أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: بلي، قال فلا إذاً.
إن الرفق ممدوح في الأمر كله، وقد جاء الحديث أن امرأة دخلت النار في هرة، لا هي سقتها ولا جعلتها تأكل من خشاش الأرض .
ودخلت امرأة زانية الجنة بكلب، وجدته يلهث فسقته رحمة به ، وقال r :" في كل كبد رطبة أجر " .
إن من حقك أيها المربي أن تأمر ابنك بالصلاة وهو ابن سبع سنين، وتضربه على تركها ضرباً خفيفاً وهو ابن عشر، وأن تختر له أماً صالحة، وبيئة طيبة، ورفقاء صلحاء، كما أنه من حق ابنك عليك، أن تحسن النفقة عليه، بأن تطعمه مما تأكل وتسقيه مما تشرب.
فالإسراف مذموم في كل شيء حتى في العبادة والتدين، فإن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأعط لكل ذي حقاً حقه.
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا[سورة القصص:77] وقال عليه الصلاة والسلام "هلك المتنطعون، هلك المتنطعون هلك المتنطعون" ، فالرفق ما دخل في شيء ألا زانه وما خرج من شيء إلا شانه، فالنصارى بالغوا في العبادة بغير علم، واليهود فسقوا ولم يعملوا بأمر ربهم، فأمرنا الله ندعوه كل يوم سبعة عشر مرة بأن نسلك طريق أهل الحق، وأن نبتعد عن طريق اليهود والنصارى، اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ[سورة الفاتحة:6-7].
ومن مظاهر الإسراف في المجتمع، المبالغة في وصف بعض الناس، فتجد الحكم المسبق من البعض على البعض، فإذا أحب إنسان إنساناً فتجده يصفه بالعالم الفقيه، والورع التقي، وإذا أبغضه فهو المنافق والفاسق والكافر، وأضله الله على علم وكل هذا مخالف لخلق المسلمين، فقد جاء في الحديث "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء" .
ومن مظاهر الإسراف، النكت على بعض الناس، وتمزيق أعراضهم، والكذب والافتراء عليهم من أجل أن يضحك الإنسان جلسائه، فالمزح لا شئ فيه بشرط أن يكون حقاً، فإنه r كان يمزح ولا يقول ألا حقاً ، تطيباً للنفوس، وتغييراً بالنشاط والحيوية، أما أن يكذب الإنسان ليضحك الناس، فهذا ذنب عظيم، وخطر جسيم.
فقد بين النبي r أنه من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، الذين يكذبون ليضحكوا الناس ، وقال r :" إن الله يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة ، ومن أشد مظاهر الإسراف: إهدار المياه بكميات هائلة، فتجد البعض قد يستحم بمئة لتر من الماء، وقد أغتسل رسول الله r بصاع فقط ويتوضأ الدقائق الطوال، مستخدماً ما يسقى به الجمال والفيلة، وقد توضأ رسول الله r بمد فقط .
ورأى النبي r سعد أبن أبي وقاص يسرف في استخدام الماء عند وضوءه، فقال له ما هذا السرف يا سعد، فقال سعد أفي الوضوء سرف يا رسول الله، فقال نعم، وأن كنت على نهراً جار .
فليس من مكارم الأخلاق أيها الناس، أنه نهلك أنفسنا وأرضنا ودوابنا، وليس من العقل بمكان أن ترى الشوارع وكأن فياضأ قد هجم، أو وادياً قد أقتحم، من أجل غسل سيارة، أو من أجل إزالة بعض الأتربة، وفي الوقت نفسه تجد أمماً تشتكي من قلة المياه، وتقام الندوات العالمية والدولية، لتقسيم منسوب المياه على شعوبهم، ونحن نهلك هذه الثروة الهائلة، فإنا لله وأنا إليه راجعون.
أيها الناس: لقد وصفكم ربكم في القرآن الكريم، بأنكم الأمة الوسط، الأمة المعتدلة في دينها ودنياها، لا تعمل لدينها على حساب دنياها، ولا تعطل شعائرها في سبيل الدنيا الفانية، لقد سمانا الله في القرآن بالأمة الوسط وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا[سورة البقرة:143] وأن خير الأمور أوسطها، وأن البياض إذا زاد أنقلب برص، إن ترك الدين يعود على الإنسان بالفسق والكفر.
فعش أيها الإنسان لدنياك كأنك تعيش أبدا، وتفكر الموت كأنك تموت غداً.
ولا يراك ربك ألا في موضعين، أما ساعياً على أولادك وعمارة دنياك، وإما مستقبلاً أخرتك عاملاً صالحاً.
ولا تكن من المسرفين على أنفسهم بالمعاصي والآثام، تاركاً أمر ربك، مطيعاً لنفسك وهواك وشيطانك. والحمد لله رب العالمين